بقلم: أحمد ونيس المكي
لو أنك زرت بنغازي قبل سنوات، ثم انقطعت عنها وعدت إليها الآن، فلن تعرفها! هذه ليست مبالغة أو شطحت تملق.. إنها حقيقة ترضعها أثداء الشمس، وشهادة أدلى بها كل من جاءها زائراً في آخر سنوات بعد غياب عنها.
المدينة التي حاربت الإرهاب، وقهرت دابر داعش وأخواتها؛ تحارب الآن إرهاباً أكبر يُدعى الزمن.
بنغازي أرجوحة الفرح، في سباق مع نفسها والوقت. وهي في ذلك ليست وحدها، حيث تقف إلى جانبها بقية المدن والمناطق التي تنعم بالاستقرار والأمن، بفضل جيشنا الوطني متمثلاً في قواتنا المسلحة أولاً؛ وبفضل جيشنا التنموي ثانياً متمثلاً في صندوق إعادة إعمار وتنمية ليبيا والجهاز الوطني للتنمية.
سنواتنا التي أضعنا!
لطالما عانت أغلب المدن الليبية من تهميش استمر ردحاً من الزمن. وسواء أكان ذلك متعمداً، وهو الأقرب، أو نتيجةً لغباء عام سيطر على دوائر السلطة بالنظام السابق، فإن النتيجة واحدة في محصلة الأمر: ضياع فرص تنموية؛ كان من شأنها تغيير مكانة ليبيا على الخريطة العالمية، من دولة تهدر أموالها وتصرفها على عبث التنظير السياسي الفارغ ودعم حركات التحرر “الطري فشي”، إلى دولة رائدة في مجال النفط وصناعاته التي تظهر فضيحتنا من خلاله جليةً – واضحة – حين نكتشف أننا رغم مرور أكثر من نصف قرن على تصديرنا للنفط لازلنا نشتري البنزين!!
كان بإمكاننا إنجاز الكثير من المشروعات، عوضاً عن الوقوف تحت صنبور الزيت الأسود، وانتظار رحمة أسعاره العالمية حتى ترتفع لنتمكن من تناول المعلبات واستهلاك كل ما تصل إليه أيدينا. ما ينجز الآن كان يجب أن ينجز قبل عقود، ولكن لمن نترك السذاجة الثورية والصراخ العاطفي الفارغ؟ قل لي بربك لمن نترك مجد السلطوية وبارانويا العظمة؟
لقد أنفقنا عقوداً من عمر هذه البلاد في بيع الوهم بالمجان، تاركين الاهتمام بالبنيان والإنسان، الذي هو أُس الشعوب والدول والمتحضرة. ولكن ما يحصل الآن من إعمار يعد نقلة نوعية على كل الأصعدة، وانطلاقة تأسيسية نحو آفاق وتطلعات ما كان لها لتكون لولا العقول التي اختارت طريق النهضة والعمران بدلاً من “البرطعة في الريح”.
عمارك جاك عمارك
كان الطريق الدائري الرابع مجرد حلم في يقظة المدينة، وقد ظل كذلك على امتداد سنوات، فلم يصبح حقيقة إلا في آخر سنتين.
لقد أنجز صندوق إعادة إعمار وتنمية ليبيا خمسة كباري، هي: كوبري جامعة بنغازي – كوبري الهواري، كوبري السلماني – كوبري جزيرة الاسمنت؛ المدخل الجنوبي للمدينة – كوبري حي السلام؛ المدخل الشرقي للمدينة.
أفتتح من هذه الكباري اثنان، والثلاثة المتبقية وصلت نسبة الإنجاز فيها إلى 90% وقريباً ستلحق بأخوتها. بالإضافة لما تم رصفه من طرق وشوارع مناطق بأكملها؛ طرق عرفتها منذ طفولتي ترابية، مذ فتحت عيني على مدينتي وأصبحت أمشي عبر شوارعها والتراب والأوحال هو المشهد العام لأغلب أحياء المدينة. واليوم أراها مسفلتة، مطلية ومخططة بعلامات المرور بفضل عمل صندوق الإعمار بقيادة الرجل الذي يتساءل شعبنا عن الوقت الذي ينام فيه؟ متى ينام بلقاسم؟
لقد أعطى المهندس بلقاسم خليفة حفتر مثالاً حياً عن المسؤول الذي يتعامل مع منصبه كتكليف وليس كتشريف.. فالرجل قلما تجده بمكتبه، بل من النادر جداً. إنك تراه في الميدان: الشوارع، مواقع المشروعات، مؤتمرات التنمية والإعمار إقليمياً ودولياً.
شئت أم أبيت استطاع الرجل أن يضع بصمته؛ بصمة منجزاته داخل قلوب الليبيين. فمن أقصى الشرق إلى أقصى الجنوب، إذ ما سألت، ستخبرك الأرض الذي يكيلها جيئةً وذهاباً؛ إشرافاً ومتابعة؛ عن فارس الإعمار وأحد الأسماء الاستثنائية في تاريخ الدولة الليبية خلال آخر عقدين من الزمن.
إن كل ما فعله ويفعله الصندوق هو تأسيس من نقطة الصفر قولاً واحد. إذ أن البنية التحتية في ليبيا متهالكة حد الغياب، إضافة إلى أن ليس هناك أُسس موجودة ليتم الاستناد عليها والانطلاق منها حتى نقول أن العمل الجاري هو استئناف لمشاريع سابقة!
لم يكن هناك سوى الخراب الذي تنعق فوقه الغربان، خراب شوه وجه ليبيا؛ بلادنا وجعلها تظهر بذلك المنظر البدائي العشوائي، من جهل وتخلف وغياب للبنيان والإنسان طوال سنوات مضت وانتهت ونتمنى ألا تعود بوجهها البائس الكئيب.
ربما، سيقول أحدهم ماذا سنستفيد من الكباري والطرق وإلى غير ذلك من البنية التحتية؟ وفي الرد على هذا، نقول:
1. الطرق والكباري والبنية التحتية بشكل عام، تؤثر بشكل إيجابي على حركتك ومعيشتك كمواطن، إضافة إلى تأثيرها في الاقتصاد بشكل غير مباشر؛ حيث أنها تسهل عمليات نقل الشاحنات للبضائع مما يساهم في تقليص الوقت في التبادلات التجارية وحركة المرور والوصول.
2. تعكس المظهر الحضري للمدينة، وهي عامل جذب مهم للزوار القادمين من خارجها.
3. في ظل ما يشهده الكوكب من متغيرات مناخية متطرفة، فإن الاهتمام بالبُنى التحتية بات ضرورة حتمية لمواجهة المشاكل التي تخلفها الفيضانات والسيول.
وفي النهاية، كل ذلك يصب في مصلحة الوطن؛ البلاد، والتي هي مصلحتنا جميعاً.
رأس الرجاء الصالح يطالعنا بعين واحدة
المناطق الحرة هي دين الاقتصاد العالمي الجديد، فإذا كنت لا تحسن العبادة فإن مغادرتك للمعبد الرأسمالي مسألة حتمية. علينا أن نفهم خط التجارة الدولية، أن نفتح أطلس العالم ونتعرف على ممرات العبور، الرسوم والحدود الجمركية، والمسافة المقطوعة لتصل علبة شوكولاتة “نوتيلا” إلى مستهلكها في إحدى الدول الحبيسة.
إن السفينة المحملة بالبضائع ستمر من ساحلنا الممتد على طول 2000 كيلو متر، بدلاً من الذهاب حتى نهاية القارة الإفريقية والعبور من رأس الرجاء الصالح. إنها ستدخل من الرأس بدلاً من المؤخرة، فما الفرق؟
1. تقليص الوقت والجهد، فحركة السفينة مكلفة بدءاً من تشغيلها إلى أعمال المناولة والتعبئة والنقل والتفريغ.
2. تحريك الفائض من الإنتاج الزراعي، وتعزيزه عبر المنافسة في سوق مفتوح تستمر فيه المبادلات التجارية في الصعود الدائم والمستمر، فالزمن يتقدم والبشر يزدادون فوق الأرض ما يعني المزيد من الاستهلاك الذي يقابله مزيد من الإنتاج.
3. توفير فرص عمل للشباب الليبي واليد العاملة الوطنية، فالمناطق الحرة هي مناطق لمعالجة الصادرات وتفرغ الواردات، وكل ذلك يتطلب كثافة عمالية عالية، ولذلك تأثير إيجابي على الاقتصاد، إذ أنها ستخفف كاهل القطاع العام المثقل الذي يئن تحت حجم مهول من الموظفين والبطالة المقنعة.
4. المساهمة في الحد من البطالة والفقر عبر احتواء طاقات الشباب، وجعلهم منتجين ومساهمين في نهضة بلادهم.
5. تعزيز النقد الأجنبي، والدخول الجدي في التصدير وتنويع مصادر الدخل والثروة؛ عوضاً عن الاكتفاء بفرم العائد الريعي من النفط في بند المرتبات.
6. ستخلق مشاريع المناطق الحرة منافسة بين الناس لمزيد من الإنتاجية والاستقلال المادي، ما ينعكس على نمو ثقافة الإنتاج في مواجهة ثقافة الاستهلاك التي علمتنا الكسل العقلي والجسدي، وجعلتنا اتكاليون نعتمد على الدولة في كل شيء.