بقلم: أحمد ونيس المكي
يُنظر عادةً إلى التسامح على اعتبار أنه صورة تعكس سمو أخلاقي لدى جماعة، أو فرد ما. ولن نغالي إذا قلنا، إن التسامح هو ما جعل الجماعات تتطور من حيث السلوك والأخلاقي؛ صعودا من العدوانية والقتل جزافا، وصولاً إلى التعايش السلمي عبر قبول الآخر والتسامح معه، وهو ما سيتمظهر فيما بعد في صيغ من العقود الاجتماعية؛ المعروفة لدينا اليوم باسم “الدساتير والمعاهدات”.
هذا التطور التراكمي التدريجي في سلوك الجماعات تجاه بعضها البعض وتجاه الآخرين، والذي يموج فيه تسامي التعايش بين صعود وانحدار، تقدم وتخلف؛ هو نتاج لارتقاء الإنسان ثقافياً ومعرفياً، ما دفعه للتفكير جدياً بأهمية وضرورة التسامح مع الآخر لا الاكتفاء بالقبول وحده.
فمن الإنسان الجامع، إلى الراعي، والمزارع؛ ظل الإنسان يقتفي أثر الوجود عبر اتصاله بالأرض والكائنات، ومن خلال علاقته بهما أدرك ما يجعل بني البشر “نوع متفرد”؛ يشغل حيزاً من حياة تبحث عن نفسها باستمرار.
عدوان أولي:
عندما كان الإنسان الجامع، يمسك بعنق أخيه الإنسان تحت شجرة مثمرة، وقتها بلا شك كان يغيب عن ذهنه معنى التسامح كفضيلة، وقيمة.
فليس هناك اعتبارات سوى لثمار الشجرة الذي يتقاتلان عليه وقتذاك، إذ لم يكن قد تعلم الإنسان الزراعة بعد ليفهم أن بإمكانه زراعة شجرة تطرح له ثماراً لا يشاركه فيه أحد.
بطريقة ما، وبصوت مسموع: الجائع لا يعرف معنى التسامح. ولأن الجوع كان سمة عصر الإنسان الجمَّاع، فإن التسامح لم يكن مطلوباً، فالصراع الفسيولوجي بين الإنسان وغريزته ظل يكافح ردحاً من الزمن ضد ارتقائه من طوره الحيواني.
أضف إلى ذلك، أن منظومة القيم: الدين، الأعراف والتقاليد، والقوانين؛ التي سيدشنها الإنسان فيما بعد، لم تكن ملامحها ظاهرة بعد.
لقد عرف الإنسان تلك المنظومة عندما استقر. فالتأمل ربيب الاستقرار في المكان، والإنسان لم يكن يتأمل شيئاً سوى الشجرة التي يجمع ثمارها عندما كان إنساناً جماعاً.
هدنة الراعي:
الرعي فكرة استقاها الإنسان من قيادة القطيع لنفسه. لقد دفعته مشاهدة القطعان إلى طرح السؤال الآتي:
لماذا لا أقودهم أنا إلى حيث المياه والكلأ؟.
وفي تلك اللحظة، بدأ عرض جديد من مسيرة التاريخي البشري على الأرض، فبعد استئناس الحيوان – صافح الإنسان يد أخيه الإنسان ليعزز حماية لقطيعه.
لقد فهم أن الحصول على شهادة إقامة للقطيع، لا يعني إمكانية تجوله ومروره دون أذية واعتداء من قبل الآخرين عليه. أدى ذلك إلى التفكير في التسامح كقيمة، كمشترك للعيش، من أجل حماية القطيع الذي هو مورد أساسي أولاً، وثانياً لأجل التعاون بين أفراد الجنس البشري على رعاية اقتصادهم الرعوي آنذاك.
لم يستمر ذلك طويلاً.. فعصر الزراعة، كان حتمية تاريخية في جراب الراعي؛ ينتظر تتحقق الحرث والحصاد بين قدمي الإنسان ويديه من جهة، وتربة الأرض من جهة أخرى.
بطوم وشماري:
مع أول ضربة فأس في الأرض، أحس الإنسان بنبض الكرة التي تتحرك تحته ويتحرك فوقها. كان شعوراً عميقاً جعله يدرك معنى الزرع، وأهمية المطر، فأخذ يتساءل عن ماهية السحر الذي يحمله النبات في احشائه! كيف لبذرة بعد ريها بالماء أن تتحول إلى شجرة، ومن شجرة إلى ثمرة؟
حتى ذلك الوقت لم يكن هناك منطقاً جدلياً (ديالكتيك)؛ للإجابة عن صراع المتناقضات الذي بدأ يحسه المزارع تجاه أرضه. فاجئه سحر الأرض، وهاله أن الطين يشبهه، وأن الزيتون مثل أطفاله: يولد، وينمو ويتكاثر أو لا يتكاثر، ثم يموت.
وبدأ الإنسان يصلى من أجل المطر، من أجل ألا يموت زرعه مثلما يموتون أبنائه.
كانت الزراعة ثورةً حقيقية، ونقلة نوعية فعلية لبني الإنسان. لقد أدركنا معنى “حضارة” لأول مرة، عندما زرعنا أرضنا؛ وأكلنا من حصادها ونحن نصرخ تحت المطر كلما سقط:
سنشبع إذا وقفت معنا.. سنشبع وسيصير الجوع شيئاً من الماضي.
وكان يرد المطر في كل مرة:
الجوع الذي كانت تفرضه الطبيعة، من الآن فصاعداً أنتم من ستفرضونه على أنفسكم، وستساومون به أخوتكم من بني جنسكم وبقية الكائنات.
وأزدهر التسامح بازدهار الأرض والحصاد، وحققت القطعان وفرةً في الصوف والجلود، اللحوم والحليب.
كما حققت الأرض وفرةً في المحاصيل. لكن كل ذلك سيصير مشكلة! تلك الوفرة ستصير عبئاً مرهقاً يجبر الإنسان على استدعاء الآلة والتقنية؛ للدخول في عصر الصناعة، بسبب ما سنسميه لاحقاً بـ “فائض الإنتاج”.
صواريخ ومحركات ووجبات سريعة:
تطورت المسألة للحد الذي صار معه التسامح؛ مستوى التسامح وهامشه ضئيلان! لن أقول أن الآلة علمتنا الشجع، الانتهاز والربحية المفرطة وهوس التملك. كما لن أقول أن “مالتوس” أطل برأسه من متجر الندرة، ووضع سهماً أحمراً تحت الموارد.. لا. سأكتفي بقول تركنا محراثنا في متحف التاريخ، بعدما تأكد لنا انتقالنا من الاحتياجات الأولية إلى دولة الرفاه، فأزداد الطلب على شطائر البرجر والبطاطس المقلية والأندومي.
ابتعدنا عن الأرض واقتربنا من الآلة، فسلمنا أنفسنا للحماقة والتوتر، الملل والاكتئاب.
والنتيجة؟ موت مجاني يذرع الكوكب، وصواريخ مثل صباح الخير.
كان علينا فهم تلك الأحجية المركبة البسيطة قبل أن يضع الراعي عصاته:
التسامح شيء طارئ على طبيعتنا البشرية، أما العدوان والصراع فهما الأصل.