بقلم: أحمد ونيس المكي
إذا نظرت جيداً إلى الخريطة المرفقة أسفل هذه السطور، ستكتشف أنها أكثر من معنى خريطة.. إنها نبوءة التحدي: دماء وتاريخ، بشر ولهجات، ألوان وذكريات.
حيوات كاملة، نشأت وانتهت فوق جغرافيا لم تحضى بقدرها من الزاد.
التخلي عن الأوطان أمر سهل، غير أنه لا يعني سوى الهروب من المسؤولية، واراحة الضمير. أؤمن بأن الجغرافيا هي قدر، يتطلب أن تترك بصمتك عليه لا أن تغادره في احتياجه؛ إلى نقطة أبعد – جاهزة – لتبدأ منها.
ما الحياة؟ إنها ليست سوى رحلة تأسيس وتأثيث مستمر في المكان. رحلة لصناعة أثر تقتفيه الأجيال المقبلة.
بالطبع، لن ألوم حالماً يصعد كلماتي، ويصرخ:
أريد أن أحيا بعيداً عن هنا، فكل ما يمثل الإنسان في هذا المكان، يبدو الاقتراب منه مستحيلا. أفهم ذلك الشعور جيداً.. ورغم هذا، اخترت أن أشهد على نموها من الصفر، وأن أقطع مسافتي في الشيب وعيّني تطالعاها بحب وأمنيات.
قبل ثلاثة أيام، قرر شباب الوطن شرقاً وغرباً وجنوباً؛ التجمع في صحراء ليبيا للاحتفال معاً بفاعليات مهرجان “رالي تي تي”.
تجمع شبابنا المشهدي الساحر الوداني وسط صحراؤنا الكبرى، أعادني لجدلية الساحل والصحراء. لقد نبهني إلى حقيقة، ربما نسيتها أو جهلتها، ألا وهي: صحرائي هي هويتي الحقيقة، وإن كنت قد نسيتها فهي لا تنسى ذلك.
كانت شمس ودان، غاربة ومشرقة في آن معاً. الرمال تحت أقدامهم؛ نشيد يكافح فوق مورفولوجية جغرافية تأبى أن تُسلم نفسها للموت واليأس.
عطش الصحراء من حولهم، تحول إلى ماء فأرتوى الجميع.
هنا، من خلف شاشة هاتفي، أشاهد مذهولاً؛ متسائلاً عن كيف أن مدينة كاملة نهضت في قلب الصحراء خلال ثلاثة أيام فقط؟! وفيما يستمر اندهاشي، تنطلق الأضواء المنبعثة من هواتف المشاركين وخيامهم نحو السماء، مثل زمكان استقبل الفوتونات للتوَ.
كان شبابنا يهتف، يحكي قصتها دون أن يُفلسف ذلك: ليبيا.. ليبيا.. ليبيا.
ودان ظلت ترقص معهم، أقسم لك باسمها، وبخالقها، مبدعها ومصور تأمل الشمس في رمالها. مشهد سينمائي أدخلني في فسحة روحية، حتى وجدتني أعيد طرح فرضية الساحل والصحراء؛ التي قفزت إلى ذهني دون استئذان، وراحت تعد معي آلاف الحناجر الهاتفة فوق سرير الشمس.
وبينما كنت مستغرقا في مشهدية رالي تي تي، تفطنت للبحر وهو يطالعني بغضب من الخلف، واقفاً عند زاوية ساحل الشمال الشرقي؛ واضعاً يده على موجه أخذ يخاطبني:
“لا تدع كرنفالاً عابراً ينسيك ملوحتي. أنا كل شي”، قال البحر مذكراً إياي بهويته التي أحملها.
أغلقت أذناي كي لا اسمعه. أهملت وجوده ووقوفه ورائي، وعدت لمتابعة الكرنفال الصحراوي.
وبحلول الظلام، كان ليل الجفرة قد قرر خطفي من فسحتي:
“أنتم الأبناء الشرعيين للشمس” وشوش ليل الجفرة في أذني، كاشفاً خديعة البحر.
ثم أضاف “نفحات البحر التي تهب على الساحل، كانت وهماً، مجرد وهم أخمل إرادتكم وأوحى إليكم بأنكم لستم كذلك”.